الوليد سيد يكتب: المُكوّن الديني في السياسة السودانية

منذ انطلاق الفكر السياسي عند اليونانين القدماء مروراً بالعهد الروماني وعصور النهضة الاوربية، ظلت العلاقة بين الدين والسياسة علاقة جدلية في العديد من المجتمعات، فقد تكون العلاقة بينهما علاقة تصالحية تؤدي إلى تحقيق مصالح البشر وإسعادهم في الدنيا (كما حدث في عهد الخلافة الراشدة) وقد تكون علاقة استغلالية يستغل فيها الساسة الدين ورجاله من أجل أن يحققوا أطماعهم ومآربهم ومن أجل تخدير الشعوب (كما هو الحال في اوربا إبان سيادة الكنيسة) وقد تكون علاقة تصارع وتقاطع (كما حدث بعد الثورة الفرنسية)

في العصر الحديث ظلت تلك الانماط الثلاثة مؤثرة علي النظم السياسية والمجتمعات، لكن علي الرغم من ذلك ظل الدين في إطاره العام مهم ومؤثر عند العديد من النُخب السياسية في العالم لأسباب عديدة منها ماهو متعلق بتنشئة النخب ذات نفسها، ومنها ماهو متعلق ببرنامجها ومشروعها السياسي.

إمتد تأثير الدين حتي في الدول (علمانية المظهر والقانون) فعلي سبيل المثال ظل الدين عاملاً مهماً في الحياة السياسة الأمريكية، فقد استشهد العديد من رؤساء الولايات المتحدة بالنصوص الدينية، كما ان هنالك  تغلغل للدين في حياة الأمريكيين في قضايا عامة وخاصة مثل شن الحرب وتفهمها أوتبرير أسبابها وتنظيم الحياة الشخصية حول مايجب فعله أو الامتناع عنه، أو تبرير العبودية والفصل العنصري أو رفضها وغيرها من الامور، الي ذلك فقد زاد حجم الصلاة الجماعية في الكنائس بأمريكا، وهي نوع من دعم الدولة للدين وفي نفس الوقت مساعدة الأفراد علي الأحساس بكل ماهو مقدس، ويرجع العديد من الباحثين ظهور التعليم العام، وانتشار العمل التطوعي إلي الدين، الا ان الجدلية مازالت قائمة في الولايات المتحدة بين من يدعو للفصل بين السياسة والكنيسة، وبين من يري عمق العلاقات بينهما.

السودان كغيره من الدول والمجتمعات تأثرت السياسة فيه بالمُكوّن الديني، فالتاريخ الحديث يخبرنا ان ذلك ناتج عن ماخلفه تعاقب الحضارات الإنسانية ذات الصبغة الدينية عليه، فمنذ مملكة نبتة في الدولة النوبية الأولي التي كانت ذات الأثر الإهرامي، وصولاً لحضارة مروي وكوش،ثم  إلي مملكة علوة المسيحية والمقرة، كانت النقوش والاثار الدينية تدلل علي الاهتمام بالدين والالهه. ثم استمر الاهتمام بالدين بعد دخول الإسلام، حيث شهدت دولة دنقلة العجوز  بداية الفتح الإسلامي، الامر الذي ادي لقيام ممالك اسلامية في السودان مثل مملكة دارفور في غرب السودان والسلطنة الزرقاء وغيرها من الممالك.

كما شهد السودان ثورة ذات دوافع دينية تحررية وهي الثورة المهدية التي حاربت الدولة التركية، ونستطيع القول انها أنشات اول دولة دينية بالسودان او أن المُكوّن الديني كان له كبير الأثر في السياسة الحاكمة آنذاك، فقد ذكر المؤرخ نعوم شقير في كتابه “تاريخ السودان الحديث وجغرافيته” والصادر في ١٩٠٣: (أن الاسلام كان له الشأن الأعظم في السودان، حتي انه يتعذر فهم تاريخ تلك البلاد فهماً صحيحاً إلا بفهم الإسلام نفسه). والملاحظ انه بعد دخول الإستعمار في ١٨٩٩ عمد علي إضعاف هذه الناحية الدينية فقد كانت لديه مخاوف من قيام ثورة دينية كالثورة المهدية مرة أخري، ولذا عمل علي تأطير الدين في كيانات اسلامية يستطيع من خلالها السيطرة علي حركتها السياسية، فقام بتشجيع كيانات مثل الختمية والأنصار و الطرق الصوفية، فقد كان الإستعمار البرتطاني وقتها متأثراً بالعلمانية التي انتشرت في اوربا بعد حركات التنوير الاوربية وظهور ماعُرف بالعقلانية الدينية.

بعد الاستقلال ونشؤ الدولة الوطنية، وعلي الرغم من ان الدين لعب دوراً مهماً في دفع الحركة الوطنية لبلورة شعور معادٍ للإستعمار، إلا أن الآباء المؤسسين للإستقلال تأثروا  بالموروث الاستعماري ولذلك نص اول دستور انتقالي للسودان في ١٩٥٦ في مادته ١/٥ علي: ( يتمتع جميع الأشخاص بحرية الاعتقاد وبالحق في أداء شعائرهم الدينية) دون الاشارة لاهمية الدين في الاحكام او في الدولة، إلي أن نص دستور ١٩٧٣ في مادته التاسعة علي: (الشريعة الإسلامية والعرف مصدران رئيسيان للتشريع والأحوال الشخصية لغير المسلمين يحكمها القانون الخاص بهم) ثم تلاه دستور ١٩٨٨ في مادته الاولي: (دولة السودان وطن جامع تأتلف فيه الأعراق والثقافات وتتسامح الديانات، والإسلام دين غالب السكان، وللمسيحية والمعتقدات العرفية أتباع معتبرون) ودستور ٢٠٠٥ في مادته الخامسة ١و٢:( تكون الشريعة الاسلامية والاعراف والمعتقدات الدينية مصادر للتشريع). لم تكن تلك النصوص تتعارض باي حالٍ من الاحوال بقيم اهل السودان المسلمين منهم وغير المسلمين، ولم تتعارض بقيم المواطنة والحرية والكرامة والمساواة حتي عند اصحاب كريم المعتقدات الخاصة.

مما سبق نجد أنه تاريخياً كان للدين  دور بارز في تشكيل قيم ووعي السودانيين السياسي،وادركت النُخب الحاكمة ان الثقافة العامة للسودانين متأثرة الي حد كبير بالدين ولذلك لابد من وضعه في الإعتبار، فجميع النشاطات المجتمعية متأثرة به بما فيها النشاط السياسي. ولا يمكن اغفال حقيقة ان الهوية الدينية بالنسبة لكثير من السودانيين جزء لا يتجزأ من هويتهم الوطنية والثقافية، إذن فالأمر اكبر من ان يكون رهين واقع سياسي او متعلق بتسويات سياسية، لأنه ببساطة يتعلق بعملية واسعة من (التوافق السياسي) فالمُكوّن الديني في حياة السودانيين يحتاج لنقاش مستفيض ووافي ومنهجي وعميق ،اجتماعي وقانوني بين النُخب والكيانات المختلفة يُفضي لإرتضاء (عقد إجتماعي) اعلي من الدستور، يستوعب ثقافتهم واحكامهم الشخصية، وحتي تنوعهم ويرون من خلاله هويتهم ولونهم وابعادهم الفكرية والعقدية.

Related posts